أهلا يا أصدقاء،
أعتذر-كما عودتكم في مقدمات تدويناتي- عن الانقطاع. أستمتع بالكتابة هنا أكثر من الانستقرام، فلا حد للكلمات في مدونتي و لا مقياس للتفاعل هنا. أكتب هنا عندما تهددني أفكاري بالانفجار أو إن أردت تخليد ذكرى و تدوين تفاصيلها. هنا أكتب لي، لا لأحد آخر. و أنتهي عادة من الكتابة و أنا أشعر بخفة جديدة تحملني و تدفعني للأمام.
حديثي اليوم عن النظام المدرسي، و التعليم المنزلي، و المناهج التي يتنافس على إخراجها الوزارات و الهيئات..
لا أخفيكم أنه عندما أتم عثمان عامه السادس بدأت أقلق عن تعليمه. كيف سأعلمه العلوم و الجغرافيا و الأدب و الكتابة؟ من سيعلمه علوم الحاسب؟ كيف سأعلمهم كل هذا؟ و كيف سأوفق بين تعليم عالية و عثمان؟ طيب ماذا عن المناهج؟ ماذا أختار؟ هل أذهب مع النظام الإيراندي لأني هنا؟ أم البريطاني لأني أعرفه أكثر؟ لكني لا أحب تاريخهم! و ماذا عن التاريخ الإسلامي؟ هل أدرجه في المنهج أم ماذا؟ طيب التوحيد؟ و التفسير؟ هل أستخدم المناهج السعودية؟ كيف أجدها هنا؟ من أين لي بكل هذا الوقت؟
و كعادة القلق، يبدأ بذرة ثم يكبر و يكبر و يكبر..
قررت أن أرجع إلى الوراء قليلا و أتعاطف مع أفكاري التي لا يزال بها من “البرمجة” الشيئ الكثير. جلست و تسائلت: من قسم هذه “المواد” إلى مواد؟ من وضع المناهج؟ أنا أحب طريقة الوحدات الدراسية أصلاً لانها تناسبنا، نشرع في موضوع جديد كالمواصلات و ندرج فيها توحيد و تاريخ إسلامي و جغرافيا و سيرة و كتابة و حديث، فلم لا أكمل؟ و مع محبتي لنظام الوحدات الدراسية التي أستخدمها إلا أن بها شيئاً لا أستطيع وضع أصبعي عليها…
و شيئاً فشيئاً، بدأت الصورة تتضح أمامي وضوح الشمس. فبدأت من الأساس. من تاريخ إنشاء المدارس. و قرأت و سمعت، ثم قرأت أكثر و أكثر.
يدخل الطفل المدرسة، فيبدأ يومه بدرس العلوم. ثم يرن الجرس فيذهب إلى الخلية الثانية، قد تكون مادة (دينية) كالتوحيد أو مادة لا نعتبرها دينية كالمهارات اللغوية. و ينتهي اليوم و قد تنقل هذا الطفل بين الخلايا ليس بناء على رغبته و إنما لأن أناس ما قرروا بأن هذا ما يجب على الطفل في هذا العمر أن يعرفه من مواد منفصلة تماما عن بعض.
لكن هذا الفصام بين المواد هكذا أمر غريب لو فكرنا قليلاً. ففي الحضارة الإسلامية كان الوحي هو المرجع و الأساس و منطلق العلوم الأخرى، مثلها كمثل وحدة دراسية كبيرة تبدأ من الوحي ثم تتشعب لتحيط بباقي العلوم الأخرى. فهناك مرجع و أساس يستند إليه باقي العلوم.
أما النظام المدرسي كما نعرفه اليوم فليس له مرجع أو أساس. فالمواد كلها تقدم على أنها بذات الأهمية بلا مرجع أو أساس تستند عليه. و الأهم أنها منفصلة بعضها عن بعض، لا تمت لأختها بصلة تذكر. نتعلم عن فتح القدس زمن عمر -رضي الله عنه في التاريخ – و في الجغرفيا نتعلم فقط جغرافية البلد الذي نحن فيه بدون أية ترابط مع مادة التاريخ. نتعلم عن جسم الإنسان في مادة العلوم، ثم نتعلم عن خالق هذا الجسم في مادة التوحيد و كأنه لا ترابط بينهما. نتعلم عن الفضاء و القمر في مادة الجغرافيا و ليس في مادة التفسير مع أن الله يقول (هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا). ثم فوق ذلك يتعلم الطفل عنها (أي القمر) في النهار و لا ينظر إليها في الليل البتة.
مرجعيتنا في العلوم الحديثة هو الغرب، أما التفسير فنرجع فيه إلى القرآن. انفصام تام بين المواد و بين مرجعيتنا لهذه المواد.
ألا ترون كيف أن هذا الفصام تفكيك لوعي الإنسان و مرجعياته؟
لا بد أن تكون انطلاقة المسلم من الوحي دائماً، فهو المنطلق و له المرجعية التامة. و قد كان أجدادنا من علماء المسلمين يتعلمون شتى العلوم و يؤلفون كتبهم منطلقين من مرجعية الوحي دائماً. هذا إلى أن بدأ الغرب بنقل علوم المسلمين إلى لغاتهم مبتورة من (اقرأ باسم ربك الذي خلق). و بعدها لضعفنا و قلة حيلتنا أعدنا نقلها عن الغرب إلى مناهجنا مبتورة جراء نقلهم و فوق ذلك جعلنا الغرب هو المرجع و الأساس.
و ليس هذا كلاماً من وحي الخيال، و من يقرأ عن تاريخ المدرسة الحديثة (نظام الاثني عشرة سنة) فسيجد فيها ما يدمي القلب.
لا عجب إذا أن يكبر أبناء المسلمين منهزمين نفسياً من هذا التفكك و الفصام!
بعد أن اتضحت هذه الصورة أمامي قررت إعادة البرمجة المتغلغلة في رأسي. ليس الأمر بهذه السهولة و لكنها أول خطوة لكي أعلم أبنائي ما ينبغي لهم أن يتعلمون، و الله وحده الهادي.
أبعدت فكرة المناهج و المواد التي كادت أن تغزو رأسي و أحضرت ورقة و قلماً، و بدأت أكتب.
لا يجب أن تكون المواد منفصلة. بل على العكس تماما، لا بد أن تكون مترابطة. و لا بد أن تهدي إلى الخالق. و لا بد أن تنطلق من الوحي.
فتحت المصحف و كتاب التفسير على سورة الناس، و بدأت أخطط..
ووجدتُ عجباً..
تخيلوا معي أن يتعلم الطفل ما يحتاج أن يعلمه من توحيد و تفسير و علم نفس و علم اجتماع و علوم و كتابة و أدب منطلقاً من كتاب الله..
تخيلوا معي أن يبدأ الطفل الذي قد حفظ سورة الناس بفهم معناها (تفسير و لغويات) ثم معرفة فضلها و كيف أنها تحفظ الإنسان بإذن الله (حديث و آثار) ثم بقصة خلق آدم و إبليس (تاريخ و عقيدة (مذهبنا في فهم عالم الغيب من الجن و غيره) و قصص الأنبياء). فإذا انتهى من هذا كله أبحر في التعرف عن الأجناس المختلفة التي انحدرت من آدم و سكنى هؤلاء الأجناس (حديث و علم اجتماع، و جغرافيا)، إلى أن يصل إلى كيفية وصول الإسلام إلى هذه البلدان البعيدة (تاريخ و جغرافيا).
فإذا انتقل إلى سورة الفلق و فهم معناها تعرف على سماء الليل (و من شرّ غاسق إلى وقب) ما فيها من كواكب و مجموعات نجمية و رآها رأي العين ليتفكر في خلقها (توحيد و علم طبيعة و علم فلك).
ترابط و انسجام و انسياب تام بين المواضيع و العلوم. الوحي هو المركز و الأساس و إليه المحتكم و له المرجعية. و ما سواه تشعب عنه و يهدي إليه. المواضيع كلها مترابطة تسند بعضها بعضاْ و تدلنا أولا و أخيرا على أن للكون خالق عظيم مدبر.
و اشددْ يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
و منذ اليوم الذي فتحت فيه المصحف و قلبي مطمئن بأن هذا هو المنهج الأمثل الذي ينبغي لنا أن نسير عليه.
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)
و هكذا -أيها القارئ- وصلت إلى المنهج الأقوم الذي أريد السير عليه في مدرستنا المنزلية.
أعلم يقيناً أن هذا الطريق الذي اخترته صعب للغاية. و فوق صعوبة التعليم المنزلي فأنا أختار الآن إقصاء المناهج التي تبرمجت على أنها هي المعتمدة و السير في طريق موحش( (لا ينبغي أن أقول موحش و إنما هو مؤنس(.
لكني أعلم أن الله معي، و أسأله الثبات.
اختصرت في هذه التدوينة لبّ أفكاري و الصراعات الرأسية التي كانت تهددني بالانفجار خلال الأشهر السابقة. لا أعلم إن كنت استطعت إفهامك -أيها القارئ – بما أريد قوله و بما استنتجته من خلال بحثي، و لكن هذه التدوينة مرجع لي و أرجوا أن أجد فيها ما يثبتني إن غزت الأفكار رأسي مرة أخرى.
خديجة
خاطرة: أظن أني سأبدأ سلسلة جديدة تحت عنوان: يوميات أمّ تعلّم منزلياً