عندما نسمع عبارة “التعليم المبكر”، أكاد أجزم أن الصورة التي تفرض نفسها في أذهان كثير منا هي صورة طفل صغير ممسك بقلم ومنعكف على ورقة عمل أو دفتر يكتب فيه بتركيز. هذه الصورة التي ليس لديها أي حضور في واقع التعليم المبكر.
دعوني أبدأ معكم من البداية:
يولد الطفل ويولد معه إحساس الدهشة بكل ما حوله، فهو يرى الكون الواسع الجميل من حوله الذي خلقه الله له، ويريد أن يتعرف على كل ما حوله من الأشياء. فتقوى حاسة النظر عند صغيرنا ويبدأ بالتطلع إلى الأشياء بدهشة كبيرة. ثم يبدأ بالحبو ويتمرس عليه دون كلل أو ملل وما أن تزيد سرعته ودقة حركاته حتى نراه يحب الاستقلال والدخول في كل الزوايا وفي كل الغرف. وما أن يكتشف يديه حتى يبدأ بأخذ كل شيء حوله وتذوقه ليتعرف عليه، حتى الكتب وحتى الأحذية . وكل ما استمع إلى الحديث من حوله بدأ بالتخزين وحاول التقليد. وكلما سمع قصة اندهش وتشرب الصور وتخيل الأحداث ومن محبته للكتاب وضعه في فمه ليتذوقه ويتعرف عليه، ثم تصفح الكتاب بالمقلوب. سمِع صغيرنا هذا بعد ذلك سورة الفاتحة من أمه كلما قرأت جهراً في الصلاة فحفظه من نفسه بدون أن يردد معه أحد. ومن خلال هذه التجارب والأصوات والمغامرات تتسع مدارك صغيرنا بسرعة هائلة ويمتلئ عقله معرفة وحكمة ونتائجاً وانبهاراً.
هذه هي الفطرة التي خلقها الله بداخل كل منا عندما نخرج إلى الدنيا.
لنرى ماذا يحدث بعد ذلك..
يأتي الوالدان بكل محبة وشفقة على هذا الصغير الذي يضع الأحذية والكتب في فمه فيبدئان بتخويفه، “يع، كخ، وسخ”، ثم يضعانه -رحمة منهم – في المشاية لكي لا يأخذ ما حوله، فيُحرم من الحبو الذي يحتاج إليه كما نحتاج إلى الماء. ويُحرم من الاكتشاف بيديه، فتُخدش فطرة الاستكشاف وحب المغامرة والتعلم شيئاً فشياً. يُرغم صغيرنا على المشي بداخل المشاية مع أنه لم ينتهي من تعلم الحبو، ولم يتسنّ له الحبو بالقدر الذي فطره الله عليه فلا تنمو جزئية الدماغ المرتبطة بالحبو. ويُلبس هذا الصغير ملابس جميلة جداً ثم لا يُسمح له بالاستكشاف والتحرك خشية توسخها فيتعلم أن المهم هو مواكبة الموضة وإرضاء الناس. تحب أمه “سوالفه” ومحاولته للكلام، فتقلده بدل أن تخاطبه بلغة جيدة، فلا يتحسن كلامه، ولا تزيد قدرته على الكلام. وتُرفع الكتب لأنه يأكلها ثم يَسخر منه أهله -بغير قصد – لأنه تذوق الكتاب “يقاله هذي قراءة!”. يلاحظ أهله أنه قد حفظ جزءاً من سورة الفاتحة فيمسكون المصحف ويجلسونه ويطالبونه بالترديد، وعندما يتحرك ولايرغب بالجلوس يُحكم عليه بأنه “لا يستطيع لا التركيز ولا الحفظ”.
يكبر الطفل وقد اهتزت ثقته بقدراته البارعة التي وهبه الله إياها من سرعة الحفظ والقدرة الهائلة على التعلم والإدراك وتغطت فطرته المحبة للعلم والمغامرة والاستكشاف ثم يستغرب الوالدان أن طفلهم لا يحب العلم ولا الدراسة.
إذن، كيف أعلم طفلي بطريقة تتناسب مع فطرته؟ كيف أعمل مع طفلي ولا أمشي في الطريق المعاكس له؟
التعليم المبكر- أيها القراء – ليس إلا المحافظة على هذه الفطرة الجميلة التي رأيناها وتحدثنا عنها. وبعد أن أحافظ عليها أنميها وأهذبها ولا أخدشها أو أحدّ منها.
فتحافظ عليها بأن تهيئ لطفلك بيئة تخدمه وتساعده على التعلم والاستكشاف؛ وهذه التهيئة هو عين التعليم المبكر في سطر.
قد تتساءل، وكيف لي بتهيئة المحيط حتى أحافظ على فطرة طفلي الصغير؟
فأجيبك، بأن تهيئة المحيط تعني -ببساطة-، أن محيط طفلي يخدمه ويخدم عمره ومراحله وميوله.
أتفهم أن طفلي في شهوره الأولى يحتاج إلى أن أحمله وأضمه إليّ حتى في نومه، فلا أخاف أن لا يستقل طفلي في المستقبل، بل أعلم أني أغرس فيه الأمان بقربي فأحمله وقت حاجته ولو كان ذلك في نومه.
أعلم أن طفلي مفطور على حب الله ورسوله، فأغرس فيه التوحيد من وقت ولادته وأعلمه من خلق أرجله ويديه وأنفه وأذنيه. بعد ذلك، أملأ أيام طفولته بقصص السيرة وسير الصحابة وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وأعلم أن طفلي يتعلم ويحفظ بلا محاولة أصلاً فأسمعه القرآن والمتون حتى يحفظه قبل أن تتكون لديه القدرة على الكلام.
عندما يكون طفلي في مرحلة الحبو، فإني أهيئ البيت له، فأحرص على نظافة الأراضي، وألبسه لباساً واسعاً كبنطال قطني طويل يحمي ركبتيه ويساعده على الحركة، وأرفع الأحذية لكي لا يأخذها، وأضع بوابة للطفل عند الدرج حتى أأمن عليه من التسلق، وأضع سجاداً على الأرض في الغرف التي يرتادها، ثم أتركه لكي ينطلق ويستكشف. يعجبه بعد ذلك خضار الزرع وملمس التراب ويحاول لمسه والتحرك عليه، فألبسه لباس المطر لكي يحمي ركبتيه، ثم أدعه يحبو بنفسه فوق التراب وفوق اللون الأخضر.
أعلم أن الطفل بفطرته متعطش للعلم والمعرفة واللغة الجيدة، فأبدأ بالقراءة له حتى قبل أن يقوى بصره، فيعتاد سماع لغة جيدة وتنشأ عنده صلة قوية بالكتب، ويبدأ بالتخزين؛ يخزن العبارات الجيدة والكلمات التي تعجبه ويحب سماعها. ثم يبدأ بالحديث عند وصوله السنتين فأسمعها منه.
أعلم أن طفلي يتعلم عن طريق المحسوسات، فألعب معه بالتراب والماء والأزهار والعشب، ولا بأس إن تذوق عناصر الطبيعة فهي تقوي مناعته وهو لا يتذوق ما حوله إلا ليتعرف عليه. أساعده على البناء وأنا أعلم أنه لن يتعلم البناء إلا بعد أن يتعلم الهدم. فأبني أنا ويهدم طفلي، ثم أبني ويهدم، ثم أبني ويهدم، إلى أن يأتي اليوم الذي أبني فيه ويشاركني طفلي مهمة البناء.
يحب طفلي اللعب التخيلي، لأن التخيل عمل الصغير، فنحول الأريكة إلى سفينة ونبحر في الصالة حتى نصل إلى بلاد ما وراء النهر. نلعب ونتخيل سوية وأنا أعلم أن هذا اللعب التخيلي هو الذي ينمي التفكير التحليلي وليست الأسئلة التحليلية التي يمليها الأستاذ على الفصل.
أعلم أن طفلي يحتاج إلى الحركة وإلى تسلق الأريكة والقفز منها فأقتني أريكة يسهل غسلها لأن لا تكون سبباً لغضبي منه، وفي الوقت نفسه أكثر من فرص الحركة له داخل البيت وخارجه، وفي الوقت نفسه أعلمه أن ما نفعله على هذه الأريكة من القفز لا يصلح في منازل أخرى وفي غرف أخرى. تنمية للحركة وعمل مع مرحلة الطفل ثم تهذيب للأخلاق بعد أن أشبعت فطرته.
أعلم أن طفلي إنسان كامل يحب الاستقلالية والاعتماد على نفسه، فأضع ملابسه في مكان يسهل عليه جلبها بنفسه، وأضع رف الكتب بمستوى طفلي حتى يستطيع أن يتخير منها ما يشاء. أدعه يختار بنفسه ولا أملي عليه كل شيء، لأني أعلم أنه كلما استقل بذاته وأُعطيت له فرصة الاختيار كلما كبر واثق الخطى بأنه قادر كبير يستطيع تدبير أموره.
أفعل كل هذا على صعوبته وأحتسب في هذا كله مرضاة الله – أن هذا تأدية للأمانة التي اؤتمنت عليها. لن يحصل هذا كله بالصورة المنمقة التي نتخيلها، فالاستكشاف والتخيل والحركة يعني أن البيت سيبدو كساحة عراك في كثير من الأحيان، وقوة الشخصية تعني أن طفلي لن يرضخ لي ويحصل على ميدالية (الطالب المثالي) في المدرسة لأنه يسأل ويناقش ويدبر أموره، واللعب يالتراب والطين يعني أن ملابس طفلي لن تكون جميلة وأنيقة عندما يلعب. لكن هذا كله يعني أني حافظت على فطرة طفلي وعملت مع مراحله وميوله وطباعه.
قد تسأل – أيها القارئ الكريم-، ثم ماذا؟ ماذا أفعل بعد أن تسلق طفلي الأريكة ولعب بالتراب والطين وحفظ الفاتحة من قرائتي في الصلاة؟ هل أدعه هكذا أم أعلمه؟ وماذا أعلمه؟
هذا ما سنتحدث عنه في التدوينة القادمة، فابق بالقرب.
وإن أحببت أن تقرأ المزيد من كتاباتي، فيمكنك الاشتراك في قائمة البريد الموجودة أدناه لتصلك نشرة أسبوعية خاصة لا أشاركها على المدونة أو على حساباتي في وسائل التواصل الاجتماعي.